Skip to main content

حول قرار المحكمة العليا المتعلق بآثار جائحة كورونا

صدر عن المحكمة العليا بالرياض القرار رقم 45/م في 8/5/1442ه؛ والمتعلق بإقرار مبادئ قضائية في شأن الجوانب ذات الصلة بجائحة كورونا، والتي أثرت على الالتزامات التعاقدية في الأسواق، وقد قررت المحكمة مبدأ عاماً باعتبار جائحة كورونا من قبيل الظروف الطارئة في حالة لم يمكن تنفيذ الالتزام إلا بخسارة غير معتادة ، ومن القوة القاهرة إذا أصبح التنفيذ مستحيلا .

ونحن في هذا المقال نسلط الضوء على بعض الجوانب الفقهية والقضائية المتعلقة بهذا القرار بما يقرب معانيه لغير المختص ، ويفتح الآفاق الفقهية والقانونية للمختصين لدفعهم إلى مزيد من التأصيل والتفريع فيما يتعلق بهذه الجائحة من أحكام .

ولعل الأصل الذي أومأ إليه القرار في ديباجته هو أن من مراعاة المصالح الخاصة والعامة في هذه الجائحة الحرص على استمرار العقود وذلك بالمحافظة على توازنها ، حيث إن مما لا شك فيه أن آثار جائحة كورونا ستتركز على إبطال العقود وإيقاف المشاريع والذي يحصل معه تعطيل التنمية في بعض المرافق وفقدان فرص العمل ، ولا شك أن الحرص على إزالة هذا الأثر بتمكين المتعاقدين من الاستمرار في تعاقدهما لحين زوال الجائحة مقصد شريف وغاية نبيلة؛ ينبغي ألا تغيب عن أعين ناظري المنازعات حول هذه العقود، ولكون المتعاقدين قد بنيا تعاقدها في الأصل على توازن المعاملة بأن ينتفع كل منهما من العقد، وأن العقد في أصله سواء كان بيعاً أو إجارة أو مقاولة مبني على الأخذ والإعطاء، وأنه إذا تحول العقد إلى بذل أحد الطرفين للآخر بدون عوض بغير قصد الهبة صار العقد ملحقاً بعقود الميسر ، وبناء عليه فإن زوال المبادلة بالكلية موجوب لزوال العقد، ونقص المبادلة في جانب أحد الطرفين بشكل يخرج عن العادة موجب لإعادة الأمور إلى نصابها بإعادة التوازن إلى التعاقد لكون ذلك التوازن هو أساس المعاملة .

والملاحظ هنا أن القرار فرق في بنده الأول بين الظروف الطارئة والقوة القاهرة؛ فجعل الظروف الطارئة : ما لا يمكن معه تنفيذ العقد إلا بخسارة غير معتادة ، وعبر عن القوة القاهرة بأنها ما يصبح تنفيذ العقد معه مستحيلا ، وهذا التفريق يتجه مع المنهج الفقهي الذي يعبر عن الظروف الطارئة بالعذر المتعلق بالمكلف ، ويعبر عن القوة القاهرة بالجائحة السماوية التي لا دخل للإنسان فيها ، فموت ( الراكب إذا لم يخلف بدلاً) وهو المستأجر في عقود النقل والسفر قوة قاهرة توجب فسخ عقد لكون المحل قد تلف ، وتعذر تشغيل المحل بسبب ضعف الأسواق عذر في طلب فسخ عقد الإجارة ، هذا من حيث الأصل وقرار المحكمة العليا جعل آثار جائحة كورونا دائرة بين الأمرين؛ فهي إذا اشتدت ألحقت بالجائحة، وإذا خفت ألحقت بالظروف الطارئة والتي توجب المراعاة بقدرها .

وقد جعل القرار لتطبيق أثر الجائحة على العقد شروطا من أبرزها : أن يكون أثر الجائحة مباشراً ولا يمكن تلافيه ، والمراد بالمباشر هنا أن يتأثر النشاط بالجائحة بشكل مباشر ، فانخفاض القوة الشرائية بعد الجائحة أمر يدركه الجميع إلا أن أثره على التاجر الذي يستأجر المحل ليس مباشراً لأن الجائحة أثرت ابتداء على المستهلك وغيرت في سلوكياته ولم تؤثر على التاجر بشكل مباشر، بخلاف أثر الجائحة على الفندق المستأجر للحجاج والمعتمرين فهو أثر مباشر لتعذر وصول الحجاج والمعتمرين إلى مكة والمدينة ، وسيكون من واجبات الترافع في القضايا المتعلقة بالجائحة إثبات الأثر المباشر للجائحة أو دفعه، وسيكون للخبراء دور هام في هذا الموضوع، وتحقيق المناط الذي سيكون مهمة القاضي هو الحكم بثبوت الأثر المباشر للجائحة على العقد أو نفيه وإجراء موجبه على العقد محل الدعوى بالفسخ أو إعادة التوازن أو رد المطالبة.

ومن الشروط التي ذكرها القرار: استقلال الجائحة بالتأثير على العقد ، فإذا كان العقد متأثراً بالجائحة من جهة وبأمر آخر من جهة أخرى فإن الواقعة القضائية لا تكون مشمولة بتطبيق هذا المبدأ ، ويتعين النظر إلى الواقعة بشكل مستقل بتطبيق قواعد الشريعة، ولتوضيح ذلك نذكر ثلاثة أمثلة مع بيان وجهة النظر فيها وذلك على النحو التالي :

  • تعاقد نشأ مع شركة كانت تعاني من ضعف شديد في قوائمها المالية قبل الجائحة إلا أنها أبرمت التعاقد على أمل النجاح والذي تحقق في أرض الواقع هو إفلاس الشركة بعد حصول الجائحة وتعذر إكمال التعاقد ، فهنا ولكون أثر الجائحة ليس مستقلاً على العقد حيث إن إفلاس الشركة جعل تنفيذ العقد مستحيلا لذا فلا يخضع الالتزام لهذا القرار وإنما يخضع لنظام الإفلاس الذي يعالج التزامات الشركة بشكل كامل .
  • تعاقد نشأ قبل الجائحة مع شركة في دولة مفتوحة ثم ولظروف سياسية حصل إيقاف التعامل مع الشركات في هذه الدولة وحصلت بعد ذلك الجائحة فاضطر المتعاقد أن يبحث عن البديل لدى دولة أخرى وهو ما تسبب بتأخير في التنفيذ ، فهنا السبب الذي أدى إلى التأخير لم تستقل الجائحة به وإنما شاركها فيه سبب آخر وبالتالي فعلى المدعي هنا اختيار أحد السببين للمطالبة بأثره لأن الفصل بين أثر كل سبب على الواقعة القضائية متعذر .
  • تعاقد نشأ قبل الجائحة بين صاحب مهنة ( طبيب ، محاسب ، محامي ، خبير ) وبعد الجائحة ولتأخر انجاز المهمة حصلت وفاة المهني مما أدى إلى تعذر استكمال المهمة ، والسبب هو الموت ، والجائحة لها أثر إذ لو كانت الجائحة غير موجودة لنفذ المهني مهمته بحسب العادة ، إلا أن الجائحة هنا لم تستقل بالسببية فيتعين النظر إلى هذه الواقعة خارج إطار القرار وتغليب سبب الموت وإجراء أحكامه الفقهية على الواقعة بغض النظر عن الجائحة وأثرها .

ومن الشروط التي ذكرها القرار: أن لا تكون آثار الجائحة مما صدر في معالجتها نظام خاص ، وبذلك تخرج عقود العمل والتي صدر فيها القرار 41 والأوامر الملكية المتعلقة بدعم القطاع الخاص لتخفيف آثار كورونا ، فلا يمكن لرب العمل أن يستند على الجائحة لإنهاء عقود موظفيه مادام مشمولا بتلك الأوامر والأنظمة، ومن ذلك أيضا عقود الإجارة المتعلقة بالمواقع الحكومية حيث صدر إعفاء المستأجرين من أجرة ثلاثة أشهر تخفيفاً لآثار الجائحة فيكتفى به عن المطالبة بغيره .، ويدخل في ذلك أي أنه لا تسمع دعوى المدين خصم جزء من الدين لأن الدولة وفقها الله أصدرت أوامر لشركات التمويل بتأجيل الأقساط على المنشاءات والأفراد بحسب الأحوال، وكذلك أوقفت أوامر الحبس في وقت الجائحة فيكتفى به عن غيره من المطالبات .

وأما الأحكام المترتبة على ثبوت الجائحة بشروطها في حق الواقعة القضائية فقد جعلها القرار في ثلاثة أقسام ووضح الحكم في كل قسم :

القسم الأول : عقود الإجارة :

  • إذا تعذر الانتفاع بالعين المؤجرة كليا فتنقص المحكمة من الأجرة ما يقابل المدة التي تعذر فيها الانتفاع ، وهذا يعني أنه لا يحق للمؤجر ولا للمستأجر طلب الإلزام بالفسخ في هذه الحالة ، ولكن توقف الأجرة عن المدة التي تعذر فيها الانتفاع ، والمرجع في ذلك هو الانتفاع المعتاد ، ففي الفنادق المخصصة لاستقبال الحجاج النفع المعتاد هو تسكينهم ، ولا ينظر إلى وجود أثاث وممتلكات المستأجر في الموقع لأنه نفع غير مقصود بذاته ، فالمستأجر يريد من العقد إسكان الحجاج والزوار الذين يدخلون البلد وفق إجراءات حكومية محددة ، فإذا توقفت هذه الإجراءات توقفت الأجرة ، وليس للمؤجر أن يطلب الإخلاء لأن في ذلك ضرر على المستأجر الذي ربما يكون قد خسر في إصلاح وإعداد العين المؤجرة واستكمال إجراءات استحقاقه لتسكين الحجاج والزوار وصرف على ذلك ملايين الريالات، وفي إتلاف ذلك عليه مضارة لا تقرها الشريعة .
  • إذا نقص الانتفاع بالعين المؤجرة لكنه لم يتوقف بسبب مباشر من الجائحة فالمتعين وفقاً للقرار إعادة التوازن إلى العقد بالنظر إلى حجم الضرر الذي تسببت به الجائحة وتقدير نسبته ثم إنقاص ذلك من الأجرة المسماة بين الطرفين ، فإذا كانت العين مؤجرة بثمانين ثم حصلت الجائحة وقدر أهل الخبرة أن الجائحة أثرت بمقدار الربع من المنفعة فينقص من الأجرة بهذا المقدار ( الربع ) ليتبقى من الأجرة ستين ، وكذلك هنا لا يحق لأي من الطرفين المطالبة بالإلزام بفسخ العقد رفعا للضرر عن الطرفين ولو كان سبب المطالبة تأخر المستأجر في سداد الأجرة .

ومما أرى أنه يحسن التنبيه عليه أن القرار منع فسخ العقد بناء على طلب المؤجر وذلك إذا تأخر المستأجر في السداد لكن هذا لا يعني عدم ثبوت حق الفسخ للمؤجر عند ثبوت المماطلة وهي عدم السداد مع القدرة على ذلك ، لكون القرار منصرف إلى حالة منع الظرف الطارئ من تتابع السداد وليس منصرفا إلى حالة المماطلة .

القسم الثاني : عقود المقاولة والتوريد :

  • جعل القرار لمحكمة الموضوع حق إعادة التوازن لعقد المقاولة أو التوريد بزيادة قيمة العقد بما يجبر الضرر الحاصل بسبب ارتفاع قيمة المواد أو الأيدي العاملة في فترة الجائحة على أن يكون ذلك الارتفاع متفقا مع العادة ، وأما إذا زاد الارتفاع على العادة فلا يجبر الطرف الآخر بتحمل ذلك، فإن قبل الملتزم له بإكمال العقد وإلا له حق الفسخ للضرر ، ولم تحدد المحكمة مقدار الارتفاع المقبول ولا غير المقبول وإنما أحالت ذلك إلى العادة والظاهر أنها تختلف باختلاف أنواع العقود ومواضيعها ، فالعقد المرتبط بعقد حكومي يختلف عن العقد المدني ، وهذا هو المتعين خاصة وأن قرار المحكمة جعل لمحكمة الموضوع الحق في إيقاف التعاقد فترة الجائحة أو إنقاص المواد الموردة دفعا للضرر عن الطرفين .
  • إذا ترتب على الجائحة تعذر التنفيذ بسبب نفاذ المواد من السوق مؤقتاً فإن القرار جعل للمحكمة الحق في إيقاف الالتزام مؤقتا مع جعل الحق للطرف الآخر بالفسخ عند ثبوت الضرر عليه من الإيقاف .

وقد ختم القرار مضمونه بالتأكيد على عدم تطبيق الشروط الجزائية والغرامات متى ثبت أن الجائحة هي سبب التأخير في تنفيذ الالتزام ، وأن الشروط التي تنص على عدم مسؤولية أي طرف عن الظرف الطارئ أو القوة القاهرة غير معتبرة ، وهي مسألة شرعية مردها أن ثبوت أثر الجوائح مورده النص الشرعي فلا يبطل بالشروط ، وأن الشروط المعارض للنصوص الشرعية باطلة لحديث (من اشترطَ َشرطًا ليس في كتابِ اللهِ فهو باطلٌ ، وإن كانَ مائةَ شرطٍ ، كتابُ اللهِ أحقُ وشرطُ اللهِ أوثقُ ) متفق عليه .

وكذلك وضع القرار على عاتق مدعي التأثر بالجائحة كلياً أو جزئيا عبأ إثبات ذلك ، فمن ادعى أن سبب تعذر وفاءه بالالتزام هو الجائحة فعليه البينة على ذلك، لأن الأصل عدم التأثر والمدعي لذلك عليه البينة ، وربما يتفرع على ذلك أن تكاليف الخبير الذي تندبه المحكمة للتحقق من هذا التأثر على المدعي لكونها بينته التي يطالب بمقتضاها فعليه مؤونتها .

وختاما فالقرار جاء كعادة قرارات هيئات القضاء العليا في المملكة يفتح آفاق الاجتهاد للقضاة في تحقيق العدالة وفق الأصول الشرعية ، ولم يرد ليغلق الاجتهاد ويحصر دور القاضي في التطبيق كما يظنه بعض المختصين ، بل على القاضي بذل الوسع في تنقيح المناط وتحقيقه وفي تقدير المصالح والمفاسد ، لدفع الضرر عن المتعاقدين وعن المجتمع ، في اجتهاد مسبب ومعلل يتفق مع مقاصد الشريعة وغاياتها، لكي لا تكون الجائحة عذرا في تخلي بعض ضعاف النفوس عن التزاماتهم التعاقدية أمام الآخرين ، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه .

وكتبه : د. سليمان بن صالح الخميس

جدة 1/7/1442

× whatsapp