خرج من غرفته كعادته كل صباح ، وجلس على الأريكة في وسط بيته ـ الذي يقع في أحد أحياء الرياض الراقية ـ ينتظر زوجته التي أقبلت بسني عمرها على الستين لتحضر له قهوة الصباح كعادته كل يوم .
شيء ما رجع به إلى الوراء فتذكر أيام صباه وشبابه الأول ، قبل نيف وأربعين سنة حينما كان يعيش مع عمه وزوجته وأبنائهما ، حينها كان يتردد يومياً سيراً على الأقدام إلى المدينة التي تبعد أكثر من ستة كيلو مترات ليدرس في معهد تأهيل المعلمين حتى أكمل تخرجه في المعهد .
يذكر أنه في ذلك اليوم الذي تخرج فيه عاد يحمل معه فرحة التخرج ليبشر بها عمه وزوجته كم كان يتمنى ساعتها أن يكون والداه معه ليشاركاه فرحته ، لكن الأماني لم تغن عنه شيئاً ، فلقد رحل والداه وهو لم يتعرف على صورتهما ، نعم لقد استطاع بخياله الصغير في ذلك الوقت أن يرسم صورة ذهنية لوالديه ، جملها كما يشاء ، جمع فيها بين المثالية والواقعية فلم يكن يرى صورة حسنة في دنياه الصغيرة إلا وضمنها صورة والديه في ذهنه .
لم يدخر عمه ولا زوجته وسعاً في تعويضه حنان الأبوة والأمومة لكن أنى يعوض عن حنان الوالدين شيء .
لم ينس ولن ينسى ذلك اليوم الذي عاد فيه من دعوة أحد زملائه له لوليمة التخرج التي حضرها مدير المعهد وأساتذته والجيران والأقارب حينما لقيه عمه فور عودته فرأى في عينه مشاعر لم تخف على عمه وقال بلهجته العامية : ما تبي تعزمهم يا وليدي ؟ اعزمهم ويبي يعين الله ؟
فرح كثيراً وحزن كثيراً ، فرح لأنه سيظر بالمظهر المطلوب ، ولن يكون أقل من غيره ، وحزن لأنه سيكلف عمه الذي لا يعلم حالته إلا الله ، لكنه مع ذلك تجاوز بعزيمته الأزمة وشرع في إنهاء المطلوب لهذه الوليمة .
دعا الجميع؛ المدير والأساتذة والزملاء والجيران والأقارب، وقرر العم أن يذبح عنزاً حائلاً (لم تحمل ولا تحلب) كانت في المزرعة، وفي سنين الحاجة لا مكان للبطالة، فالعنز إذا كانت حائلاً فلتكن للضيوف.
وفي اليوم المحدد توافد المدعون إلى الحصباء التي وضعت أمام المنزل لاستقبالهم ، وحضر الجميع وزيادة حيث إن الجميع يرغب في احتساب الأجر ومشاركة اليتيم فرحته ـ ناهيك عن العوز المنتشر في الناس والذي يكثر بسببه الطفيليون ـ ولهذا فقد كثر الضيوف وزاد عددهم كثيراً عن المتوقع .
وابتدأ قلبه الصغير يرتجف ، وضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وأحس أن جبلاً كبيراً يوشك أن يقع فوق رأسه ، وتمنى أنه لم ينجح ؛ لكي لا يقع في هذا الإحراج ، لكن ماذا يفعل ، شتم يومه وأمسه ، بل تمنى لو أنه الآن تحت الأرض في حضن والدته تحميه من هذا الموقف .
لم تستطع عيناه الصغيرات ولا ابتسامته المصطنعه أن تحجب قلقه ، فاغرورقت عيناه بالدموع ، وصار يروح ويجيء لا يدري ماذا يفعل .
وضع عمه يده بين كتفيه فأحس بدفئها في صدره ، قال له: لا تخف سيبارك بها الله ، انطلق إلى زوجة عمه وهي تطهو الطعام ومعها أختاه اليتيمتان ، نظر في القدر لعله يجد ما يسره لكن هيهات ، إنها العنزة لا غير ومعها بعض الرز الذي ربما لو اجتمع عليه هو وأهله لأكلوه .
ووضع العشاء ونودي بالضيوف فاجتمعوا ولم يكن ثم متسع للجميع لذا فقد انقسموا إلى دورين : أول وثاني ، والثالث طبعاً هم أهل البيت إن بقي لهم شيء .
وهنا يبارك الله فعلاً كما قال عمه فأكل الجميع الدور الأول والثاني وبقي لأهله ما بقي
اغرورقت عيناه بالدموع وهو يتذكر هذه القصة في بيته الفسيح في الرياض ، وأخذ يتساءل هل ما حصل كان كرامة من الله لليتيم الذي أصابه القهر في هذه العشية أو كان كرامة لعمه ـ الرجل الصالح ـ الذي أراد الإحسان فتمم الله له ما أراد .
لا يعلم الجواب حتى الآن لكنه قال في نفسه : لو لم يقدم عمي إلا هذه السخله لكفته ، ولعله الآن يتقلب في جنات الفردوس بسببها .
نعم إنه ليس عماً ولا يكفي في حقه أن أقول إنه أب ، هو شيء ما أعظم من ذلك …