Skip to main content

الرقابة الدستورية في القضاء السعودي

الرقابة الدستورية في القضاء السعودي

التقنين أو التنظيم ضرورة من الضرورات في كل عصر لا يمكن الاستغناء عنها؛ ذلك لكون الشريعة جاءت بكليات تضبط معاملات الناس وتركت تفاصيل تطبيق هذه الكليات إلى الناس ليضبطوها بحسب الحال فقد يقيدوا واسعا أو يحددوا مطلقا أو يعينوا مبهما … فعلى سبيل المثال لم يرد في الشريعة مأذون الأنكحة ولا كاتب العدل وإنما ورد القبول والإيجاب والإعلان والإشهاد وجاءت التنظيمات لتضبط ما ثبت أصله في الشريعة ، فمتى كانت هذه التنظيمات من الشريعة أو على مقتضاها أو لا تعارضها فهي من السائغ شرعا، ومتى كانت تخالف الشريعة بما لا يسوغ فيه الخلاف فهي من الباطل المردود ،وتفصيل ذلك ليس محله مثل هذه المقالة .

والرقابة الدستورية بوجه عام هي” إخضاع القوانين الصادرة من السلطة التشريعية لرقابة تقوم بها هيئة مختصة؛ للتأكّد من عدم مخالفة هذه القوانين لأحكام الدستور ، وتختلفُ دول العالم في رقابتها الدستورية، لكنها تتفق في مجملها على ضرورة عدم مخالفة النظام أو القانون لأحكام الدستور، وتكون الرقابة الدستورية غالباً على مرحلتين :

الاولى : سياسية ويمارسها غالبا البرلمان بمناقشة التشريعات قبل صدورها للتأكد من موافقتها للدستور سواء كان مكتوبا أو غير مكتوب ؛ وبهذا فإنها تمثل رقابة وقائية أي قبل صدور القانون ودخوله حيز الالزام والالتزام .

الثانية : قضائية وهي رقابة تقوم بها هيئة قضائية مختصة بسماع دعوى الاعتراضات التي يتقدم بها أصاحب الشأن على القوانين التي تصدرها السلطة التشريعية لمخالفتها لأحكام الدستور ، لذا فإن هذه الرقابة تالية لصدور القانون، ولها سلطة الحكم بالإلغاء على المواد والتشريعات أو تقييدها أو تفسيرها بما يتفق مع الدستور؛ وتسمى المحكمة التي تمارس هذه السلطة بالمحكمة الدستورية .

وليست الرقابة الدستورية على التنظيم أو التقنين ليست بدعا من القول ؛ فلقد نزل القرآن بتعديل اتفاقية تتضمن تقنينا بين المسلمين والكفار أمضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي تفسير ابن كثير في تفسير قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ۖ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۚ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ۚ ذَٰلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ ۖ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فأشار ابن كثير في تفسيرها إلى قصة الحديبة ثم قال  رحمه الله : فكان فيه ـ أي في صلح الحديبية ـ : ” على ألا يأتيك منا رجل – وإن كان على دينك – إلا رددته إلينا ” . وفي رواية : ” على أنه لا يأتيك منا أحد – وإن كان على دينك – إلا رددته إلينا”… فعلى هذه الرواية تكون هذه الآية مخصصة للسنة ،…وعلى طريقة بعض السلف ناسخة ، فإن الله ، عز وجل ، أمر عباده المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات أن يمتحنوهن ، فإن علموهن مؤمنات فلا يرجعوهن إلى الكفار ، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن . أهـ ، وقلت : وعلى طريقة أهل التقنين فهذا تعديل لاتفاقية دولية بموجب حكم دستوري  .

وروى الحافظ أبو يعلى عن مسروق بإسناد قال عنه ابن كثير إنه قوي جيد ، قال : ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله ثم قال : ( أيها الناس ، ما إكثاركم في صُدُق النساء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإنما الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك . ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها . فلا أعرفنَّ ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم قال : ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت : يا أمير المؤمنين ، نهيت الناس أن يزيدوا النساء صداقهم على أربعمائة درهم ؟ قال : نعم . فقالت : أما سمعت ما أنزل الله في القرآن ؟ قال : وأي ذلك ؟ فقالت : أما سمعت الله يقول : ( وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ) قال : فقال : اللهم غفرا ، كل الناس أفقه من عمر . ثم رجع فركب المنبر فقال : إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقهن على أربعمائة درهم ، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب . قال أبو يعلى : وأظنه قال : فمن طابت نفسه فليفعل ) ، وهذا أيضا اعتراض على تنظيم أو تقنين لمخالفته الدستور طلبت فيه المعترضة الإلغاء .

وما زال أئمة الفقه والعلم يعترضون على القرارات والأنظمة بمخالفتها النص الدستوري ، والأمثلة أكثر من أن تحصى ومنها : اعتراض بعض الصحابة على منع عمر من بيع أمهات الأولاد، وقد كن يبعن في عهد أبي بكر لما روى جابرٌ قال: بِعنا أُمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فلما كان عمر نهانا فانتهينا، رواه أبو داود، فلما جاء علي رخص ببيعهن ، وكذلك إمضاء عمر الطلاق الثلاث ثلاثا.. وغير ذلك من الأحكام .

ولا يعاب على الحاكم أو الجهة التشريعية أن يقعوا في الخطأ في فهم النص فيصدر منهم تشريع يخالف الحكم الشرعي ذلك أن حصول الفوت في مثل هذا ممكن ، ولكون الاجتهادات تختلف فقد يظن الحاكم أو الجهة التشريعية مساغ بعض التشريعات ثم يتبين مخالفتها للشريعة فيتعين تعديلها أو نقضها ، وإنما العيب هو عدم المراجعة من أهل الاختصاص أو عدم القبول من الجهة التشريعية ، وأكبر العيب واللوم والنقص هو ظن العصمة في غير ما جاء عن الله ورسوله والله تعالى يقول : ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) .

وفي الأنظمة القضائية العالمية يخصص محكمة مستقلة للاختصاص الدستوري فتعتبر المحاكم الدستورية قسيمة للمحاكم الإدارية والعادية ، وأما في النظام القضائي السعودي فلم ينفصل الاختصاص الدستوري عن القضاء بنوعية الاداري والعام بل جعل هذا الاختصاص والذي يتمثل التأكد من موافقة أو من عدم تعارض الأنظمة الصادرة من جهات الاختصاص للدستور والذي هو الشريعة الاسلامية الى المحاكم ، وخصوصا المحاكم العليا ( الإدارية والعامة ) والتي تمارس بمقتضى النظام الرقابة الدستورية على تطبيق الأنظمة على الوقائع المعروضة أمامها ، فهي بهذا لا تعالج نص النظام ولا تحاكمه ولا تملك سلطة إلغاءه أو تعديله ؛لكنها ملتزمة وملزمة بتطبيق قطعيات الشريعة والامتناع عن تطبيق كل فهم للنظام على خلاف هذه القطعيات ، وأنظمة القضاء السعودي تؤكد على هذا الواجب القضائي ، فقد نص نظام القضاء في المادة الأولى منه على أن : القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية، وليس لأحد التدخل في القضاء ، كما نص نظام ديوان المظالم على أن من صميم اختصاص المحكمة الإدارية العليا : النظر في الاعتراضات متى كان منشأها : مخالفة أحكام الشريعة الإسلامية، أو الأنظمة التي لا تتعارض معها أو الخطأ في تطبيقها أو تأويلها ، وهذا صريح في إعطاء المحاكم وخاصة العليا منها الرقابة الدستورية في الوقائع المعروضة أمامها ، وهذه الرقابة ثابتة حتى لقضاة المحاكم الابتدائية فقد نص نظام المرافعات الشرعية في المادة الأولى منه على : (تطبق المحاكم على القضايا المعروضة أمامها أحكام الشريعة الإسلامية، وفقاً لما دل عليه الكتاب والسنة، وما يصدره ولي الأمر من أنظمة لا تتعارض مع الكتاب والسنة ) .

ولقد أكد النظام الأساسي للحكم في المملكة على هذا المبدأ فجاء نص المادة السابعة منه : يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله تعالى، و سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة ، كما نصَّت المَادَّة السادسة والأربعون من النظام ذاته على أن ” القضاء سُلطة مستقلة، ولا سلطان على القضاة في قضائهم لغير سلطان الشريعة الإسلامية “

وهذا الذي أذكره هنا ليس من أفكار كاتب المقال بل هو في أصله مقرر من قبل المراجع القضائية العليا في المملكة فقد ذكر وزير العدل رئيس المجلس الأعلى للقضاء سابقا نحو هذا ونشر في جريدة: ” الحياة ” بتاريخ 15 من المحرم لعام 1430هـ، العدد (16719)، حيث قال :” توجد في المملكة العربية السعودية رقابة دُستوريَّة سياسية سابقة ولاحقة، ورقابة قضائية، والأخيرة تمارس رقابة الامتناع وليس الإلغاء؛ إذ إن رقابة الامتناع في المملكة تختلف عن غيرها لدى الدول التي توجد فيها محاكم دستورية… فالقاضي السعودي يفصل في القضية بعد مباشرته لصلاحية رقابة الامتناع، التي يجد ما يؤيّدها في المادة السابعة من النظام الأساسي للحكم الذي يمثل وثيقة دُستوريَّة، لها طابع السُّمو الشكلي والموضوعيّ في التدرج التنظيمي المعمول به في المملكة …. ويكتفي بالفصل في القضية الماثلة دون أن يتدخل في ولاية الإلغاء.

ومن نظر في قرارات أئمة القضاء السعودي وفي مقدمتهم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم ومن بعد قرارات مجلس القضاء الأعلى ثم أعلام القضاة في السعودية وجد في أقضياتهم ممارسة فعلية لهذه الرقابة تتسم بالحكمة ومراعات مقاصد الشريعة وتحصيل المصالح ودفع المفاسد .

وتأكيدا على ما تقدم فإنه يتعين تنبيه أصحاب الفضيلة من القضاة وأهل الاختصاص من المحامين والأكاديمين وغيرهم عند تطبيق هذه الرقابة على ما يلي :

أولا / أن ما تقرر أعلاه يؤكد على حق المواطن بالدفع في المخالفة الدستورية في أي مرحلة من مراحل الدعوى ، وأن سماع دفعه وضبطه حق له بكل حال مع مراعاة الاختصار حتى لا تتحول المحكمة عن موضوعها الرئيسي في الدعوى المنظورة أمامها .

ثانياً / أن قبول الدفع بمخالفة الشريعة يشترط فيه ثلاثة شروط :

  • أن يكون النظام الصادر مما لا يسوغ فيه الخلاف وهو ما كان مخالفا لنص من القرآن أو السنة أو إجماع متقدم ثابت .
  • أن لا يكون النظام الصادر موافقا لقول مشهور ثابت النسبة عند السلف وأئمة العلم ممن يسوغ تقليدهم كما لو صدر النظام بجباية الزكاة من الحلي وهو قول طوائف من فقهاء السلف أخذ به الحنفية فلا يسوغ الامتناع عن تنفيذه لكون الاقتداء بهؤلاء الأئمة مما هو سائغ شرعا ، والمثال ليس للتقرير وإنما للتوضيح .
  • أن يكون من يمارس هذه الرقابة من القضاة من أهل الاجتهاد – ولو الجزئي في هذه المسألة – فلا يسوغ للقاضي أن يعارض نظاما وهو لم يبحث في المسألة بحثا وافيا يبلغ فيه درجة الاجتهاد الجزئي فإن عدم القاضي أدوات الاجتهاد منع من ذلك ووسعه التقليد العام في المسألة .
  • أن لا يترتب على ممارسة سلطة الرقابة الدستورية مفسدة أعظم؛ كما لو اجتهد القاضي في إبطال نوع من الديون أو الرسوم الحكومية فإن الغالب أن مفسدة هذا أعظم من مصلحته، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باحتمال بعض المظالم العامة تحصيلا لمصالح الاجتماع والوحدة ودفعا لمفسدة الفتنة والفرقة، فعَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قالَ رسُولُ اللَّه ﷺ:إنَّهَا ستَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، قَالُوا: يَا رسُولَ اللَّهِ، كَيفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذلكَ؟ قَالَ: تُؤَدُّونَ الحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وتَسْأَلُونَ اللَّهَ الذي لَكُمْ متفقٌ عليه .

وختاما فإن أحكام الشريعة أوسع من صدور الناس ، وإن كان الخلاف شر من أصله إلا أن من رحمة الله تعالى لأمة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عدم مؤاخذتهم فيما اختلفوا فيه إذا اجتهدوا ، ومن ثمار هذه الرحمة ما شرعه الله تعالى من العذر لمن اجتهد فأخطأ، ومن مشروعية البيان للحكم الشرعي والإنكار على المخالف بحسب الأحوال، والجمع بين العذر والإنكار بحسب الأحوال فقه لا يتمكن منه الا القليل من الناس ، نسأل الله العظيم من فضله ونسأله السداد والهداية لنا ولولاة أمورنا ولقضاتنا إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

وكتبه : د. سليمان بن صالح الخميس

جدة / 6/ربيع الثاني /1442ه

× whatsapp