Skip to main content

الحكم التشريعية في تحريم المعازف

ينبغي أن نعلم ابتداء أن المراد بالحكم التشريعية : المصالح التي شرع الحكم الشرعي لتحصيلها والمفاسد التي شرع الحكم الشرعي لدرءها ، وهي بهذا غير العلة المعروفة في باب القياس ، ذلك أن العلة هي الوصف الظاهر المنضبط الذي يوجد الحكم عند وجودها ، فوجود العلة سابق وسبب لوجود الحكم ، وشروط العلة وأحكامها معروفة في باب القياس في كتب أصول الفقه .

وأما المصالح والمفاسد أو الحكم التشريعية فلا علاقة لوجودها أو انتفاءها بالحكم الشرعي ؛ ذلك أن الحكم مستقر بدونها ، وإنما يلتمس المكلف المصالح التي تحصل له بالامتثال ، والمفاسد التي تندفع عنه بالترك ؛ ليكون ذلك اطمئناناً لقلبه ، وعوناً له على الامتثال ، مع تسليمه بأمره الله واستسلامه له .

والسؤال عن الحكمة التشريعية إن كان بغرض التقوي على القبول والعمل فهو لا بأس به وإن كان بقصد المعارضة فهو مذموم ، ولقد ذكر الله عن بني إسرائيل أنه لما سمى الله طالوت ملكاً عليهم أنه سألوا عن الحكمة : ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) فأجابهم نبيهم بالعلة أولاً ( إن الله اصطفاه عليكم ) ثم بالحكمة ( وزاده بسطة في العلم والجسم ) ثم عقب ببيان حق الله في الاصطفاء ( والله يؤتي ملكه من يشاء ) ، وقد سأل الصحابة رضي الله عنهم عن الحكمة في جعل في إتيان الرجل أهله صدقة فبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( أرأيتم إن وضعها في حرام أكان عليه وزر ، قالوا نعم فقال فكذلك إذا جعلها في حلال ) أخرجه مسلم .

 والحكم التشريعية لا أثر لزوالها على الحكم فقد يشرع الحكم لحكمة ثم تزول ؛كما شرع الله الرمل في طواف العمرة اظهاراً للقوة أمام المشركين ففي الصحيحين من حديث  عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : (لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : إنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ ، فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلاثَةَ , وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ , وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا : إلاَّ الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ )، ومع زوال العلة وتحول مكة بقي الرمل سنة في طواف القدوم ، ولذلك لا يقول قائل إن الحكم يزول بتخلف بعض حكمه التشريعية لأنها ليست علة للحكم يزول الحكم بزوالها .

وليعلم المؤمن أن كل ما أحل الله لعباده فهو من الطيبات ، وكل ما حرم عليهم فهو من الخبائث ، وذلك غاية من إرسال النبي محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون)،فكل ما حرم الله فهو خبيث ، وإن بان في الظاهر أنه من الطيبات ، وإذا علم المسلم هذه القاعدة اطمأنت نفسه إلى شرع الله ، وألزم نفسه الرضا والتسليم وقال كما قال سلف هذه الأمة ( سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) .

والغناء والمعازف لله فيما شرع فيها من الأحكام حكم بالغة ، وقبل بيانها يحسن التأكيد على أن مقصد الشريعة هو إبعاد المسلم عن اللهو واللعب إلا بالقدر الذي يحتاج إليه ليتقوى على طاعة الله ، فالإنسان خلق للعبادة وعاش ليموت فيبعث فيكون في الجنة فهي الحياة الحقيقية التي يسعى لها ، وأما الحياة الدنيا فهي كلها للعبادة بمفهومها الشامل كما قال تعالى ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ وقال تعالى ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) ، وأما اللعب اللهو فهو مذموم بالجملة إلا بقدر ما يعين على طاعة الله ، وعلى هذا تواردت نصوص الشريعة من الكتاب والسنة ، ومنها :

  • قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ، وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ) .
  • قوله تعالى : ( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) ،وقال تعالى : (وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) .
  • وجعل الله في سورة الأعراف من أخص صفات الكافرين اللهو واللعب وجعل عاقبته نسيان الله لأهله في العذاب أي تركهم فيه ومنعهم من رحمته فقال تعالى : (وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ۚ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ، الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۚ فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) .
  • وجعل الله اللعب واللهو الذي هو حقيقة الحياة الدنيا نقيض الإيمان والتقوى فقال تعالى : (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۚ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ) ، وجعل عاقبته العذاب الشديد في الآخرة فقال تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) .
  • ومن السنة ما أخرجه الإمام أحمد بسند حسن عن عقبة بن عامر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (كل ما يلهو به الرجل المسلم باطلٌ، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهنَّ مِن الحق) ومعنى”باطل” أنه لا يُؤجَر عليه، ولكن لا يلحقه إثمٌ .
  • ومثله ما ثبت عند النسائي عن عطاء بن أبي رباح، قال: رأيت جابر بن عبدالله وجابر بن عميرٍ الأنصاريين يرميان قال: فأما أحدهما: فجلس، فقال له صاحبه: أكسلت؟ قال: نعم، فقال أحدهما للآخر: أما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «كل شيءٍ ليس من ذِكْر الله فهو لعبٌ، لا يكون أربعة: مُلاعبة الرجل امرأته، وتأديب الرجل فرسه، ومشي الرجل بين الغرضين، وتعلم الرجل السباحة».

هذا يؤكد أن اللهو من غير هذه الأربعة لعبٌ، وليس كل لعبٍ محرمًا ، فالذم لا يقتضي التحريم بكل حال ، قال شيخ الإسلام في”الاستقامة1/277”: ”والباطل مِن الأعمال هو ما ليس فيه منفعة، فهذا يرخص فيه للنفوس التي لا تصبر على ما ينفع، وهذا الحق في القدر الذي يحتاج إليه في الأوقات التي تقتضي ذلك الأعياد والأعراس وقدوم الغائب ونحو ذلك…”. اهـ. وقال الشوكاني في”نَيْل الأوطار8/259”: ” قال الغزالي: قلنا: قوله -صلى الله عليه وسلم-: «فهو باطلٌ» : لا يدل على التحريم, بل يدل على عدم فائدة”.

قال الشيخ عبدالعزيز بن باز : “المقصود أن هذه الثلاثة هي التي فيها الفائدة والمصلحة الكبيرة ، وأما الأشياء الأخرى فالأمر فيها واسع وليست محرمة إذا كانت لا تشتمل على محرم، كالمسابقة بالأقدام، أو المسابقة بحمل الأثقال أو ما أشبه ذلك، هذا لا بأس به إذا لم يشغل عن الصلاة ولم يكن فيه منكر آخر، لا كشف عورات ولا غير ذلك ، فإذا لهى الإنسان بمسابقة الأقدام أو بحمل الأثقال أو ما أشبه ذلك فلا بأس بذلك لكن يكون من غير المال، من غير عوض، من غير مال بل لمجرد المسابقة التي ليس فيها عوض، فهذا لا حرج فيه ، ومعنى باطل يعني ليس فيه فائدة أو ليس فيه مصلحة أو ما أشبه ذلك، ليس المقصود التحريم ولهذا أجاز النبي ﷺ المسابقة وسابق عائشة على الأقدام، وأجاز لسلمة بن الأكوع المسابقة على الأقدام فلا بأس بذلك . (تنظر الفتوى في الموقع الرسمي لسماحته على الرابط التالي

والغناء والمعازف هو من اللهو بلا ريب فيدخل في عموم هذا الذم ، إلا أن الشريعة أباحت منه ما تحتاج إليه النفوس أحيانا ، وما يلحق الحرج بالامتناع منه ولم يشتمل على مفسدة راجحة ؛ كما في الغناء غير المصحوب بآلة وغير المشتمل على ما يفسد الأخلاق والفطر من غزل قبيح أو غلو بالصالحين … ، وكذلك أباحت ما تدعو الحاجة إليه من الضرب بالدف في المناسبات التي تتلهف النفوس فيها لبعض المرح واللهو ، ووسعت على الصغار ثم على النساء أكثر مما جعلته عزيمة في حق الرجال الكبار ، ثم جعلت من خصال المروءة التي يراعيها الخاصة عدم الانجرار إلى هذه الملاهي خاصة في المجالس العامة .

‏  ولقد ذكر أهل العلم حكما كثيرة لتحريم الغناء تندرج في هذا الأصل الذي ذكرناه ومما ذكروه في هذا الباب ما يلي :

1 – أنها مِزمَار الشيطان ، وهي صوته الذي يُغوي به بني آدم ، قال تعالى : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) ، قال مجاهد : باللهو والغناء ، أي : اسْتَخِفُّهم بذلك ، فالغناء والمعازف وسيلة من وسائل الشيطان لإغواء بني آدم ، وقد ذكر الطبري في تاريخه : حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا داود- يعني ابن أبي الفرات- قال: حدثنا علباء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه تلا هذه الآية : ( وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) ، قال: كانت فيما بين نوح وإدريس، وكانت ألف سنة، وإن بطنين من ولد آدم، كان أحدهما يسكن السهل، والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبل صِباحا ، وفي النساء دمامة، وكان نساء السهل صِباحا وفي الرجال دمامة، وإن إبليس أتى رجلا من أهل السهل في صورة غلام ، فآجر نفسه منه، وكان يخدمه، واتخذ إبليس لعنه الله شيئا مثل الذي يزمر فيه الرّعاء، فجاء فيه بصوت لم يسمع الناس مثله، فبلغ ذلك من حولهم، فانتابوهم يسمعون إليه، واتخذوا عيدا يجتمعون إليه في السنة، فتتبرج النساء للرجال، قال: وينزل الرجال لهن. وإن رجلا من أهل الجبل هجم عليهم وهم في عيدهم ذلك، فرأى النساء وصباحتهنّ، فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك، فتحولوا اليهن، فنزلوا عليهنّ، فظهرت الفاحشة فيهن، فهو قول الله عز وجل: ( وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى )” ، وإسناد هذا الأثر إلى ابن عباس رضي الله عنه ظاهره الصحة، وربما أخذه عمن أسلم من أهل الكتاب ، وبكل حال فهو موافق لما جاء في تسمية الغناء مزمار الشيطان  .

2 – أنها تَصُدّ عن ذِكْر الله ، فلا يَجْتَمِع كلام الرحمن وكلام الشيطان في قَلْبٍ بحيث يَنْتَفِع به صاحبه ، قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ، وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) ، ولقد جاء التعبير القرآني بلفظ : ( اشترى ) والذي هو في الأصل مبادلة شيء بشيء ، وذكر المشترى في الآية الأولى وهو ( لهو الحديث ) ، والذي أقسم بعض الصحابة أنه الغناء ، وذكر المباع في الآية الثانية وهو ( آياتنا ) ونصت الآية على أن من اشترى اللهو – وهو الغناء –  لن ينتفع بآيات الله بل سيتولى كأن لم يسمعها فهو لا يتأثَّر بِكلام الله تبارك وتعالى ، ولذا قال ابن القيم :

حُبّ الكِتاب وحُبّ ألْحَان الغناء *** في قلب عَبْد ليس يَجْتَمِعانِ

فكلما استحكم التعلق بالغناء والمعازف والملاهي كلما ضعف الانتفاع بآيات القرآن حتى ولو قرأه  .

3 – ذكر غير واحد مِن السَّلف أن الغناء رُقيَة الزِّنا ، ، أي أنه يَدْعو إلى ذلك ، فالغناء يدعو إلى الفحش والاختلاط واجتماعات الفساد ، ونحن لا نحتاج إلى أن نستدل لهذا ، فهو ظاهر ظهور الشمس في رابعة النهار ، فها  هي حفلات الغناء في بلاد الكفار وفي بلاد المسلمين تدعو إلى الاختلاط والتبرج والرقص المختلط بين الرجال والنساء ، وهل يسع عاقل أن ينكر ذلك ، بل إن كثيرا ممن شهد السماع الصوفي وهو ممن تنتقى كلماته يلحظ الاختلاط في الحفلات وما تثمر عنه تلك الاجتماعات من فساد في السلوك ، وفي البخاري عن ابن عباس أنه قال : ما رَأَيْتُ شيئًا أشْبَهَ باللَّمَمِ، ممَّا قالَ أبو هُرَيْرَةَ: عَنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (إنَّ اللَّهَ كَتَبَ علَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أدْرَكَ ذلكَ لا مَحَالَةَ، فَزِنَا العَيْنِ النَّظَرُ، وزِنَا اللِّسَانِ المَنْطِقُ، والنَّفْسُ تَمَنَّى وتَشْتَهِي، والفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلكَ أوْ يُكَذِّبُهُ) فالله كم عين تزني في تلك الحفلات وكم أذن تزني في تلك المجتمعات ، والله أعلم بالخفيات .

4 – أنَّ الغناء يُنْبِت النِّفاق في القلب ، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ، قال ابن القيم رحمه الله (إغاثة اللهفان 943-944: ” فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق ، ونباته فيه كنبات الزرع بالماء. فمن خواصه : أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القران وتدبره ، والعمل بما فيه ؛ فان القران والغناء لا يجتمعان في القلب أبدا؛ لما بينهما من التضاد؛ فإن القران ينهى عن اتباع الهوى ، ويأمر بالعفة ، ومجانبة شهوات النفوس وأسباب الغي ، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان ، والغناء يأمر بضد ذلك كله ، ويحسنه ، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي ، فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح ، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح، فهو والخمر رضيعا لبان ، وفي تهييجهما على القبائح فرسا رهان ، فإنه صنو الخمر ورضيعه ونائبه وحليفه ، وخدينه وصديقه ، عقد الشيطان بينهما عقد الاخاء الذي لا يفسخ ، وحكم بينهما شريعة الوفاء التي لا تنسخ ، وهو جاسوس القلوب ، وسارق المروءة ، وسوس العقل ، يتغلغل في مكامن القلوب ، ويطلع على سرائر الافئدة ، ويدب إلى محل التخييل ، فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة والرعونة والحماقة ، فبينا ترى الرجل وعليه سمة الوقار، وبهاء العقل ، وبهجة الايمان ،ووقار الاسلام ، وحلاوة القران ، فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقله، وقل حياؤه ،وذهبت مروءته ، وفارقه بهاؤه ، وتخلى عنه وقاره ، وفرح به شيطانه ، وشكا إلى الله تعالى إيمانه ، وثقل عليه قرانه ، وقال : يا رب ! لا تجمع بيني وبين قران عدوك في صدر واحد… ( إلى أن قال رحمه الله ) وأيضا فإن أساس النفاق أن يخالف الظاهر الباطن ، وصاحب الغناء بين أمرين : إما أن يتهتك فيكون فاجرا، أو يطهر النسك فيكون منافقا، فانه يظهر الرغبة في الله والدار الاخرة ؛ وقلبه يغلي بالشهوات ، و محبة ما يكرهه الله ورسوله من أصوات المعازف ، والات اللهو، وما يدعو إليه الغناء ويهيجه فقلبه بذلك معمور، وهو من محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قفر، وهذا محض النفاق ، وأيضا فان الايمان قول وعمل : قول با لحق ، وعمل بالطاعة ، وهذا ينبت على الذكر وتلاوة القران ، والنفاق قول الباطل  وعمل الغي ، وهذا ينبت على الغناء ، وأيضا فمن علامات النفاق : قلة ذكر الله ، والكسل عند القيام إلى الصلاة ، ونقر الصلاة ، وقل أن تجد مفتونا بالغناء إلا وهذا وصفه ، وأيضا فإن النفاق مؤسس على الكذب ، والغناء من أكذب الشعر؛ فانه يحسن القبيح ويزينه ، ويأمر به ، ويقيح ا لحسن ويزهد فيه ، وذلك عين النفاق ، وأيضا فان النفاق غش ومكر وخداع ، والغناء مؤسس على ذلك  ، وأيضا فان المنافق يفسد من حيث يظن أنه يصلح ، كما أخبر الله سبحانه بذلك عن المنافقين ، وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله من حيث يظن أنه يصلحه ، والمغني يدعو القلوب إلى فتنة الشهوات ، والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات .

5 – أن ما يُحْدِثه الغناء والموسيقى على وجه الخصو  ص مِن نَشْوَة وطَرَب لها أضرار بالغة على النفس البشرية وعلى السلوك الشخصي ، ولا شك أنه يوجد كثير من الدراسات ووجهات النظر التي تزعم الأثر الإيجابي للموسيقى على النفس والسلوك ، إلا أن هذا ليس محل إجماع حتى بين الباحثين في المجتمعات غير المسلمة ، حيث تظهر بعض الدراسات الأثر السلبي للموسيقى أو لبعض أنواعها على النفس البشرية ، ففي دراسة أجراها د. أرلين تايلور حول التأثير السلبي المحتمل للموسيقي ظهر أنه يمكن  للموسيقى أن تؤدي إلى تأثيرات ضارة على العقل والجسم بسبب أثر الاهتزازات الصوتية على الجهاز العصبي حيث تؤدي إلى إحداث تقلص في العضلات تؤثر على حركة الذراعين واليدين والساقين والقدمين بل وأظهرت نفس الدراسة أثرا للموسيقي على قوة التذكر عند فئران التجارب التي أجريت عليها التجربة
ينظر :
الرابط التالي 

 

وقد كشفت  دراسة في جامعة  وستمنستر في المملكة المتحدة بهدف مساعدة الموسيقيين أن أولئك الذين يعملون في الموسيقى قد يكونون أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب ثلاث مرات ، مقارنة مع عامة الناس ، كما ذكرت الدراسة التي شملت 2211 مشاركا أن 69٪ منهم أنهم يعانون من الاكتئاب ، وأن 71٪ من المشاركين أفادوا أنهم تعرضوا لنوبات هلع و / أو مستويات عالية من القلق ، وأن 30٪ من المشاركين سيكونون على الأرجح ، أو كانوا قد طلبوا المساعدة بالفعل.
ينظر :

الرابط التالي 

 

بل وصل الأمر إلى استعمال الموسيقى في التعذيب في السجون، حيث إن بإمكان الموسيقى إحداث تغيير في كيمياء المخ، خاصة عند توفر العوامل المساعدة كدرجة ومستوى التردد والتكرار على سبيل المثال، فمن هنا يلجأ بعض المحققين في جهاز FBI إلى تشغيل الموسيقى الصاخبة والأغاني الممتلئة بالصراخ والضجيج بأذن السجين يومياً وعلى مدار ساعات، والتي تدفعه إلى الصراخ بأعلى صوته، ولمدة أربعة أيام متتالية والتي تتكفل بتدميره نفسياً وعصبياً، والحصول على المعلومات المراد معرفتها من السجين .

كما يشير البعض إلى أن مفعول الغناء والموسيقى في تخدير الأعصاب، أقوى من مفعول المخدرات ، وأن للأنغام والألحان الموسيقية، آثاراً سيئة على أعصاب الإنسان، وعلى تقليل الإبداع لديه ، كما يرى البعض أن من أهم عوامل ضعف الأعصاب والأتعاب النفسية الروحية والصداع هو : الاستماع إلى الموسيقى والغناء.
ينظر :

الرابط التالي1

الرابط التالي2

 

ولا شك أن أثر الغناء والمعازف على سلوك من أدمنه ظاهر ، فالمويوعة والتشبه بالنساء وقلة الحياء ظاهر فيمن يدمن عليهما من الرجال ، بل إنه يندر أن تر من يتعاطى الغناء وله شأن في الفروسية أو العلم أو خصال السيادة والريادة بين الناس. 

ومع ذلك فنحن لا نربط الحكم الشرعي بهذه الرؤى إلا أننا نؤكد أن الزعم بمنافع الموسيقى على النفس ليس محل اتفاق بين المختصين بل هناك من يقول بنقيض ذلك تماماً .

6 – ما يُحْدِثه الغناء مِن قَسْوة في القلب؛ بسبب صده عن ذكر الله ، وقد اسْتَعاذ النبي صلى الله عليه وسلم مِن قَلْب لا يَخْشَع كما في صحيح مسلم ، ولذلك صار الغناء شعار الكفار في صلاتهم التي يأمرهم بها الشيطان كما قال تعالى ( وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ۚ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ) ، قال ابن عباس : كانت قريش تطوف بالكعبة عراة تصفر وتصفق . والمكاء : الصفير ، والتصدية :التصفيق ، قال الضحاك : الغناء مَفسدة للقلب مَسخطة للرَّب ، وحال من اشتغل بالغناء يوضح ذلك حيث يشهد الناس في أهل الغناء الغفلة والقسوة والانغماس في اللهو واللعب وربما اشتهر كثير منهم بالشرب والتعاطي وكم انتحر من ينتسب لهذا المجال .

وختاما نؤكد أن الحكم التشريعية تزيد المؤمن يقينا بمعرفة جمال الشريعة ورعايتها مصالح المكلفين ، وأن المؤمن شعاره التسليم لله ودثاره الاستسلام لأمره ، وهو إن علم الحكمة زادته إيمانا مع ايمانه ، وإن جهلها علم أن مصلحة ابتلاء القلب بترك المحاب لأجل الله تعدل كل مصلحة ، ولقد أمر الله نبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذبح ابنه ووحيده وبكره إسماعيل ليخلص قلبه لله ، فلما امتثل كانت عاقبة ذلك الفداء من الله ، والخلة لإبراهيم الذي صفى قلبه لله ، والبشارة بإسحاق نبيا من الصالحين ، وذلك فضل الله الذي رتبه على الاستجابة لأمره تعالى ( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ، وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ، سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ، كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ، وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) هذه هي ثمرة التسليم والامتثال لأمر الله تعالى ، فهنيئا لمن فتح الله عليه هذا الباب وصار من أولياءه المفلحين .

× whatsapp