Skip to main content

الهاديء والظبية

بسم الله الرحمن الرحيم؛ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد …

كان هادي طفلا صغيرا يرعى أغنام والديه في السهول القريبة من قريته، كان كثير الأحلام؛ يحمل بين أظلعه الصغيرة قلبا كبيرا، سر هذا القلب هو ما تعلمه من والدته التي أشبهت المسيح عليه السلام حين قال: إذ ضربك احد على خدك الأيمن فادر له الأيسر! لم يكن في قلب هادي سوى الأحلام والحب .

تعلم وتربى على الصفح والغفران، لم يعرف هادي أن يقول : لا ، وكان كثيرا ما يدفع ثمن هذا العجز عن إخراج هذه الكلمة .

كبر هادي وكبرت أحلامه ، كان يحلم بان يكون غير كل من عرفهم، كان يحلم ويحلم، أحس هادي بأنه سيكون كما حلم، وكما كبرت أحلامه كبر أيضاً عطاؤه.

لم يكن يعرف ” لا ” ، عاش من اجل والديه ومن حوله، لبس لا من أجل نفسه لكن من أجل غيره، درس ونجح لا من أجل نفسه لكن من أجل غيره، وكما كبر هو فقد كبرت حاجيات الناس، وكبرت أطماعهم فيه وفيما عنده، وكما ازداد عطاؤه لمن حوله فقد ازداد حبهم وتعلقهم فيه .

أحس هادي بحبهم له ودعمهم لمشاريعه التي يقفز إليها قفزا ، ظن هادي ان الناس يحبونه له لا لحاجاتهم.

كان كثيرا ما يتجول في السهول التي كان يرعى أغنام والدته فيها ويتذكر كيف كانت أمه تدعو له، كيف مات وهي عنه راضية كيف كانت تصر على انه افهم وأعقل من الآخرين ولذا عليه أن يعطي أكثر، كيف كانت تقول له دائماً : جعلك الله عينا جارية لإخوانك.

كان يحس في كل مرة إنها تحمله مسؤولية رعاية من حوله، كان يحس أن من حق أمه عليه أن ينفذ ما دعت به لكي تكون أمه مجابة الدعوة.

كان يشعر بعد فقد والديه بإحساس غريب ، انه الإحساس بالفقد والحرمان والخوف ، هذا الشعور جعله يشعر بالغربة ، وصار لا يأوي إلى مكان حتى يغادره إلى مكان آخر.

وذات يوم وبينما هو يتجول في تلك السهول التي كان يرعى الأغنام فيها ؛ يحمل بقلبه الشعور بغربته المؤلمة أبصر ظبية صغيرة قد أضجعها كسر في قدمها على الأرض ، رفعت الظبية أذنيها لسماع صوت إقدام هادي قبل أن تراه.

حاولت الظبية أن تفر لكن لم يكن بإمكانها، تقدم هادي إلى الظبية ووقف عند رأسها، وقعت عينه على عيني الظبية ، كانت عينيها مملوءة بالرجاء والاستعطاف، وكان في نظرتها أيضاً الثقة بأنها ستنال منه ما تريد.

وقف مشدوها للحظات أمام هذه النظرات ووجد نفسه دون أن يشعر حاملا الظبية على عنقه ليعود بها إلى منزله، اهتم هادي بالظبية حتى شفيت إلا أن رجلها ظلت معيبة فلا تسير إلا بعرج ظاهر يبصره الأعمى!

وقعت الظبية في قلب هادي في موقع ، لقد أحس بحاجتها له ، فبذل لها كما تعود أن يبذل ، ويظهر أن الظبية قد تفوقت على كثير ممن حول هادي فأحبته لذاته لا لبذله ، لقد وجدت فيه ما لم تعرف انه موجود في بني ادم ولقد استطاعت الظبية أن تظهر هذا الشعور لهادي ، وهكذا نشأت علاقة متبادلة بنيت على المبادلة لا على العطاء من طرف والأخذ من طرف آخر.

وصار هادي مع ظبيته في أكثر أحيانه ، في مرعاها وفي حظيرتها ولا يفارقها إلا في أقل الأحوال، وكانت نظرات الظبية وحنانها كافيين في تبديد الشعور بالغربة في قلب هادي ، ومع انشغال هادي بظبيته بدا ينشغل عن من حوله وصار لا يسارع ولا يسابقهم إلى حاجتهم كما تعودوا ، وشعر الآخرون بالسبب ، لقد كانوا مقتنعين أن الظبية يمكن أن تكون عشاء للأسرة بل ولجميع أهل القرية أما أن تكون الظبية بمثل هذه المنزلة فذاك شيء لم يقتنعوا به.

حاولوا أن يوصلوا هذه الرسالة لهادي لكنه تجاهلها بكل أدب، لم يشاء أن يجرح مشاعرهم ويحدثهم عن مواقفه النبية معهم وانه أن قل منها شيء الآن فلا يضر لأنه محسن وما على المحسنين من سبيل!

أحس هادي بان الغضب بدا يتمكن ممن حوله بسبب هذه الظبية ، أحس بأنه غضب بين حسدين ، حسد له على ظبيته وحسد لظبيته عليه، حسدوه إن وجد نفسه ولو مع ظبية ، وحسدوها إن وجدت محسنا ولو كانت تعرج، واستمرت قلوب من حول هادي تغلوا في غضبها، وتجد في ثقافتها وعاداتها ما تبرر به هذا الغلو.

واليوم هاهو هادي خارج من قريته يجر معه ظبيته يردد في نفسه:

وظلم ذوي القربى أشد مظاظة *** على المرء من وقع الحسام المهند

× whatsapp