Skip to main content

الهلال الشيعي من طهران إلى لبنان

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية خرج العالم بخريطة مختلفة للقوى على سطح الكرة الأرضية ، فقيادة العالم خرجت من أوراسيا ( أوربا وآسيا) إلى العالم الجديد في أمريكا الشمالية ، والعالم الإسلامي الذي كان القوة المهيمنة خلال أكثر من ألف سنة صار خارج خريطة القوى تماما ، وفي الشرق تشكل الاتحاد السوفيتي الذي مثل قطبا مضاداً للقوة الجديدة في العالم الجديد ، أما أوربا فقد خرجت منهكة بعد الحرب ولم تجد خيارا سوى تسليم القيادة للولايات المتحدة لتعيش التبعية الفكرية والعسكرية ، ولسان حالها يقول لا تكن رأسا فإن الرأس كثير الآفات .

وإذا كانت أوربا تنازلت مختارة عن الرأس خشية الآفات ؛ فإن العالم الإسلامي كان الذيل الذي قالت فيه الأعرابية ( لا تكن ذيلا فتقطع ) ، وهذا بالطبع لم يكن خياراً وإنما واقعا عاشه العالم الإسلامي تحت قيادة الرجل المريض ، وهكذا قطع الذيل كما هي السنة الكونية وتفرق العالم الإسلامي دويلات وأحزابا ، ولضمان عدم إعادة تشكل هذا الكيان ومعاودته الطموح لأن يكون رأسا من جديد فقد سلك المحتل معه سياستين استراتيجيتين طوال مدة الصراع إلى هذا اليوم ولا يمكن للغرب أن يتخلى عنهما :
الأولى : السعي إلى تعدد الولاءات بين أقطار العالم الإسلامي ، فكل دولة أو دويلة يجب أن تتبع ولاء مختلفا عن الأخرى ، فاليمن يمنان أحدهما للروس والآخر للأمريكان ، وهكذا في سائر أقطار العالم الإسلامي ولك أن تتصور أن دول العالم الإسلامي منقسمة بين دول في الناتو ودول في الكومنولث ودول في المنظمة الفرانكفونية ودول في المنظومة الاشتراكية ، وهو ما يجعل إعادة التوحد معقدة بل جزءاً من الخيال .
الثانية : زرع دولة الكيان الصهيوني في فلسطين وهو ما يحقق غرض التفرقة بين الدول الإسلامية من خلال إسناد مهمة شق الصف العربي الإسلامي إلى أهل الاختصاص وهو اليهود ، الذين سعوا إلى تفرقة الدول الإسلامية من خلال تفرقة المواقف تجاه الكيان الصهيوني ، ولنا أن نتذكر ما حصل من انشقاق كبير في العالم الإسلامي بعد كام ديفيد السادات ، وما يحصل الآن بسبب تباين المواقف تجاه العدو الصهيوني وتجاه القضية الفلسطينية .
والحقيقة إن الكيان الصهيوني لم يستطع أن يحقق النجاح المطلوب خاصة على مستوى الشعوب حيث جاءت الرياح بما لا تشتهي سفن أعداء الأمة ، فخرجت الصحوة الإسلامية لتمثل إرادة الأمة في النهوض ، وكان للدعم الذي قدمته المدرسة السلفية في الخليج وخصوصا المملكة العربية السعودية لهذه الصحوة لتكون سياجا في موجهة الفكر الشيوعي المتطرف والثورة الخمينية كان له أكبر الأثر في توسيع مجال الصحوة شعبياً بل وعلى مستوى قيادات الدول الإسلامية ، فظهرت أصوات قيادية تمثل اتجاهات إسلامية داخل الحكومات في العالمين العربي والإسلامي ولك أن تقرأ في تاريخ المغرب العربي السياسي أو تاريخ الدولة التركية الحديثة لتدرك مدى التحول الذي حصل بسبب هذا الصحوة من الفكر الليبرالي المتطرف إلى الصورة الليبرالية الإسلامية إن صح التعبير مع ملاحظة أن هاتين المنطقتين ( المغرب العربي ، تركيا ) هما نقطتا التماس بين العالم الإسلامي وأوربا .
إن الفشل في زرع الخلاف بين شعوب العالم الإسلامي أدى إلى البحث عن البديل لإسرائيل فكانت فكرة الهلال الشيعي من طهران إلى لبنان الحل الأقل سواء بالنسبة للغرب الفزع من العملاق الإسلامي الذي بدأ يستيقظ ؛ وذلك لتحقيق الأهداف التالية :
1-إشغال العالم الإسلامي فكرياً بالنزاع السني الشيعي كبديل عن النزاع الفكري بين الإسلام والنصرانية أو النظريات الغربية الحديثة ، فيتحول الجهد الفكري والنتاج الحضاري للمسلمين ليناقش الفكر الشيعي بدل مواجهة النصرانية أو النظريات الغربية الحديثة .
2-إشغال العالم الإسلامي سياسياً وعسكرياً في مواجهة الشيعة مما سيزيد الهوة في التفوق الغربي على المسلمين ، بل وسيجعل المسلمين مضطرين للاستسلام للغرب بأحد معسكراته ليكون معينا لهم في عداوتهم الجديدة .
3-تحويل ميزان العداوة الذي كان منذ السنة الحادية عشر للهجرة وحتى القرن الثالث عشر منصبا بالدرجة الأولى على الصليبين وقوى الاستعمار تحويله إلى إيران الفارسية الشيعية وبعدها إسرائيل اليهودية ، والإيحاء للعالم الإسلام أن الغرب النصراني يمثل الصديق المؤازر للمسلمين في قضاياهم .
4-الحيلولة بين التمدد السلفي في أوربا من خلال وضع هذا الهلال حاجزاً بين السلفية في الجزيرة العربية وبين أوربا ، ومحاولة عزل تركيا فكرياً وسياسياً واقتصادياً عن العالم الإسلامي وربما تمهيدا لالتهامها .
ولتحقيق هذا الغرض كان العائق الوحيد أمام أصحاب هذه الأطماع هو تلك العلاقة بين الدول السنية والسلفية خصوصا وبين المجاهدين ، والتي نشأت إبان الحرب الأفغانية ، وكان لابد من أجل تقويضها من استغلال الضعف في البنية الجهادية من الداخل ، وسهولة اختراقها ، فبدأ العمل على ذلك في فترة مبكرةٍ من الجهاد الأفغاني ، وكان في المنتمين للجهاد في أفغانستان من بدأ في إثارة الشكوك حول الدول السنية والسلفية خصوصاً ، فكانت كتب التكفير توزع على المجاهدين ، وينشر في صفوفهم أن تحرير القدس لا يمر إلى من تحطيم حدود الاستعمار ( سايسبيكو) … إلى غير ذلك من الأفكار التي تردد إلى هذه الأيام.
وبعد انتهاء الجهاد في أفغانستان تحولت إيران إلى دولة راعية لبقايا المجاهدين ، وصار من أوى إلى عبدة النار وسدنة القبور يهاجم الدول السلفية وخصوصا في الخليج ويتهمها بمؤزارة النصارى والغرب ، وصرت لا تفرق بين صراخ الخمينية : الموت لأمريكا وبين صراخ القاعدة : لن تنعم أمريكا بالسلام ، حتى إن أفعال إيران اقتصرت على الضرب داخل الدول السنية ، وكذلك القاعدة أكثر أعمالها هو ضرب المصالح الغربية داخل الدول السنية …هذا كله مع ترديد الجميع ( القاعدة ومن بعدهم ، وإيران ) أن بعضهم لبعض أعداء .
وعلى مستوى الدول الإسلامية فقد رأت هذه الدول أن خطر بقايا المجاهدين على بقاءها أشد من غيرهم ، فصارت بعض هذه الدول رأس الحربة في الحرب ضدهم ، وبذلت في ذلك الغالي والنفيس حماية للدين من الغلاة وحماية للكيان المتوحد من التفرقة ، وتفرع عن ذلك إشكاليات في الداخل والخارج لا تخفى على المتابعين .
ولا شك أن الغلاة ربما أكثرهم وصل إلى مرحلة يصعب معها العلاج إلا بما جاء في الحديث (إن من ضِئضيء هذا قوماً يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرُقون من الإسلام مُروقُ السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام، ويَدَعون أهل الأوثان، لئن أدركتُهم لأقتلنَّهم قتل عاد) أخرجه البخاري ومسلم ، إلا أن تعميم الحكم على المجاهدين يؤدي إلى فقد أهل السنة إلى عنصر من أهم عناصر قوتهم ، وبالتالي فإن من أهم المهمات التي يجب أن تتصدى لها الدول السنية محاولة التمييز بين من هو من الخوارج الذين هم أقرب إلى أهل الكفر من أهل الإسلام ، وبين من هم من أهل الجهاد والإسلام ويمكن أن يكونوا سببا في تحطيم الحلم الصليبي الرافضي ، ويجب ألا نسند هذه المهمة إلى الغرب الكافر ولا إلى الجهلاء من المسلمين بل يتعين على الدول السلفية السنية أن تندب من أهل الخبرة العلمية والعسكرية والسياسية ليقوموا بما يلي :
أولا / وضع ميثاق للجهاد ضد هذا الحلف الصليبي الرافضي يقوم على بيان الموقف الديني والسياسي تجاه دول الإسلام ، وتحديد معايير الولاء والبراء للأمة .
ثانياً/ تصنيف الفرق التي في الساحة الجهادية بعد مراجعة ما يصدر عن قياداتها في السر والعلن وفقا لهذا الميثاق لتكون معايير الدعم واضحة وصريحة .
ثالثا / تحديد القواعد الواضحة التي ترسم العلاقة مع هذه الجماعات التي تجمع بين تبعيتها الفكرية والمنهجية ، واستقلالها السياسي والعسكري لتكون يدا ضاربة بنفسها محققة للأهداف المشتركة بين الدول السنية والجماعة .
رابعاً / إيجاد الغطاء القانوني المتفق مع أحكام القانون الدولي للمجاهدين والذي يضمن عدم تصنيفهم دولياً من الإرهابيين ووضع الخطوط الحمراء التي لا يجوز تجاوزها حماية للجماعة الجهادية .
إن النظر لمن يتعاون أحيانا مع النظام السوري والنظام الرافضي ، ويفجر في بلاد أهل السنة ؛ بل وفي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويشارك الحوثيين في حربهم ضد التحالف على أنه من المسلمين لمجرد أنه سمى عمله هذا جهادا فيه استخفاف بقواعد الشريعة ، إن هذا هو الوقوف الصريح في خندق أعداء الله دون ضرورة أو حتى حاجة ، فأي حاجة تدعو الداعشي إلى الوقوف في صف الحوثي ضد قوات التحالف العربي في هذه الحرب التي اتفق أهل العلم من أهل السنة والجماعة على أنها من الجهاد في سبيل الله .
والخلاصة : إن التفريق بين الجهاد والدول السنية أضعف المجاهدين وأضعف الدول السنية ، وإن الرجوع إلى دعم الجهاد وفق قواعد واضحة وصريحة تقوم على تصفية صفوف الجهاديين وتنقيتها من الدخل والنفاق سيكون من جديد مصدر عز للمسلمين ، وعليه الأمل بعد الله في قلب الطاولة على مشعلي الفتنة في الشام والعراق وحماية الدول السلفية من أطماع أعدائها ، وأخشى أن نتأخر في مثل هذا الأمر فيفوت الأوان .
وكتبه : د.سليمان بن صالح الخميس
جدة 1438/3/17هـ

× whatsapp